المناعة الفكرية
نشر في:
04:42 PM
2023-11-22
المشاهدات: 402

((وإذا المَوءُودَةُ سُئِلت بأيِّ ذَنبٍ قُتِلَت))1.

كلما نسمع هذه الآية الشريفة نستذكر زمن الجاهلية ونستنكر تلك القسوة والتفكير الهمجي الذي كانوا عليه.

وبعد التأمل بكيفية معالجة الدين الإسلامي لهذه القضية، تتضح لنا عدة أمور.

لما شخّص الدين الإسلامي العِلة أعطى الحلول، فنزل القرآن الكريم بقوانين جديدة، وضعت الحدود وبيّنت الحقوق والواجبات لكل البشرية، ووضّحت بشكلٍ صريح أنَّ للأنثى حق الحياة كما للذكر، ولها حق الاختيار، حيث لا يصح الزواج بالإكراه فلا بد مِن رضاها وقَبولها، ولها حق التملّك والمِيراث وحق التعلّم وغيرها.. وهذا ما يُسمى بالبرمجة الفكرية.

والبرمجة الفكرية: هي إدخال معلومات للعقل ومع التكرار والممارسة العملية ترسخ وتصبح اعتقادا؛ لذلك نلاحظ أنَّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يطرح القضية بشكل نظري فحسب، بل طبّقَ ما جاءَ في القرآن الكريم بشكلٍ عملي على أرض الواقع، لأنَّ برمجة العقل لا تتحقق بالنظريات والكلام فقط، بل يحتاج العقل مواقفا وأفعالا تُترجم ما يُقال، فأعاد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) برمجة المجتمع من جديد ونقلهم من الممارسات الخاطئة إلى الممارسات الحَسنة مِن خلال الأقوال والأفعال، فاهتمَّ بتعليمهم بالتطبيق العملي في كيفية التعامل المثالي مع المرأة مِن خلال تعاملهِ مع زوجاتهِ وابنتهِ، وبهذا قلَب الموازيين وصحّح فوضى الأفكار، فقد كان (صلى الله عليه وآله) يُعامل ابنته السيدة الزهراء (عليها السلام) بكلِّ ودٍ ومحبةٍ وعطفٍ واحترامٍ وإجلال؛ ليكون القدوة والمَثل الأعلى في المجتمع آنذاك والعالم أجمع..

وكذلك كان أهل بيته الكرام (عليهم السلام) يضربون أروع الأمثلة في الإنسانية في تعاملهم مع المرأة الأم والزوجة والأخت والبنت وحتى المرأة الخادمة..

حتى تعلّم المجتمع وفَهِم أهمية المرأة وضرورة احترام كيانها، وهكذا عاشت المرأة الحرية وكان عصرها الذهبي في ضل انتشار الدين الإسلامي العظيم.

ولكن للأسف الشديد كلما ابتعدنا عن زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن زمنِ آل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، ضعفت هذهِ المناعة -الفكرية- وسَهُل اختراق العقل بأفكار ومفاهيم مغايرة، فكلُّ زمانٍ لهُ أفكارهُ الدخيلة التي تؤثر بشكلٍ أو آخر على اعتقادات المجتمع..

وبالإمكان ملاحظة هذا المعنى بوضوحٍ في زمننا الحاضر، حيث أصبحت المرأة تعاني من جاهليتين، الجاهلية الأولى: حيث القتل لأسبابٍ تافهة وتحت غطاء الأعراف الذي ما أنزل الله بها مِن سُلطان، وتزويجها بالإكراه مثلاً، أو حرمانها مِن حقِّ الرفض، أو حقّها بالميراث.. الخ. وجاهليةٍ ثانية: وهي انفتاح المسلمين بشكلٍ كبير جداً على بقيّةِ الثقافات وما يخترق مجتمعاتنا مِن أفكارٍ جاهلية لكن بشكلٍ برّاق وبأسلوبٍ ناعم وتحت مسميات وعناوين لامعة، حيث أصبح الضخُّ الإعلامي وتركيزه على المرأة بشكلٍ مبالغ بهِ مِن خلال استغلالها في الإعلانات والترويج ومسابقات الجمال ودوّامة التنافس على مواكبةِ الموضة وآخر الصيحات العصرية وغيرها، وكأنها دُمية صار أقصى طموحها إرضاء الناس وملاحقة أذواق المشاهير وتقليد كل ما يروّجون له. 

وبالطبع ليس الهدف مِن ذلك هو الرّفع مِن شأنِ المرأة كما يدّعون، وإنما الحَطّ مِنه وقتل حَياءها وعِفّتها وفِطرتها وبراءتها واستعبادها تحت عنوان التحرّر والتطوّر والجَمال.. وهكذا ضاعت حقوق المرأة بين الجاهليتين.

روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: «ليس منا مَنْ لم يُحاسِب نفسه في كلِّ يوم، فإن عَمل خيراً استزاد الله مِنه وحَمد الله عليه، وإن عمل شيئاً شراً استغفر الله وتاب إليه»2

وهنا مِن الضروري دق ناقوس الخَطر لمُراجعةِ الأفكار وتَشخيص الرديئة مِن الجيدة مِنها والأصيلة مِن الدخيلة المُعادية لديننا الإسلامي، وقد أصبح الوعي ضروري وواجب لصحوة المجتمع وفلترة أفكارهِ وتصحيحها، وإعادة برمجة العقل وإنعاشهِ بالتعاليم الإسلامية الراقية وتحصينهِ ورفع مناعتهِ ضِد سموم الأفكار المعاصرة التي تعصف بنا كلَّ يوم، وبما أنَّ المرأة أساس الأسرة والأسرة نواة المجتمع، فلابد من إعداد المرأة بوعي وبحبٍ واحترامٍ لكينونتها وحفظِ حقوقها وكرامتها؛ لنتحصّلَ في النتيجةِ على جيلٍ بهذهِ الجودة ومتخلّقٌ بهذا الخُلُق الجّميل. وكما يُقال: "فإذا أعددتَها أعددتَ شَعبًا طيّبَ الأعراقِ"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر: 

1-التكوير، آية: 8.

2-ميزان الحكمة - ج ١ - ص ٦١٩.



ترك تعليق