نُسب إلى الإمامِ علي بن أبي طالب (عليه السلام):
وتحسبُ أنّك جِرمٌ صغيرُ ... وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ..
لا أحد يشك في الإمكانات التي تم تزويد الإنسان بها، وعلم الطب والتشريح أثبت جزءاً يسيراً مِن ذلك، ولنا الحق حينها أنْ نتساءل: إذا كان الإنسانُ بهذهِ الإمكاناتِ الكبيرة التي جعلها اللهُ (تعالى) فيه، فلماذا لم يعِشْ جميعُ البشرِ حياةً ناجحةً، خصوصًا في يومنا هذا حيثُ يُعاني الكثير من أمراضٍ نفسيةٍ حتى تصلَ ببعضهم إلى محاولتهم الانتحار؟!
يُمكننا استنباطُ الإجابةِ من الإمام علي (عليه السلام) ذاته؛ إذ التأمّل في حياته المُباركة يفكّ بعضَ الأسرار في هذه الشخصيةِ العظيمةِ، وسنجدُ بوضوح أنّ مِن بين تلك الأسرار (سر الاختيار).
فقد كان (عليه السلام) يختارُ الأفضلَ دائمًا من بين الخيارات؛ فبينما كانَ الناسُ يعبدون الحجارةَ اختارَ أنْ يعبدَ اللهَ (عزّ وجل)، وعندما كانوا يقتدون بأهلِ المالِ والجاه اختار أنْ يتخذَ خيرَ الخلقِ محمداً (صلى الله عليه وآله) قدوةً له..
وبهذين الخيارين بدأتْ مسيرةُ حياته تبتعدُ نوعًا ورفعةً عن جميعِ الناس حوله، فكانَ يختارُ المركزَ الأولَ في جميعِ الاختبارات، ففي اختبارِ العبادةِ كانَ من أولِ العابدين، وفي اختبارِ التضحيةِ كانَ أولَ المُضحين، وفي اختبارِ الشجاعةِ كانَ أولَ المُبارزين، وفي اختبارِ السلامِ كان أجملَ المسالمين، وفي اختبارِ العطاءِ كانَ أكرمَ المؤثرين، وفي اختبارِ الرحمةِ كانَ أرأفَ الراحمين، وفي اختبارِ القيادةِ كانَ أحكمَ القياديين، وفي اختبارِ الدفاعِ كانَ أولَ المدافعين، وفي اختبارِ الصبرِ كانَ أصبرَ الصابرين..
وهكذا في جميع الاختباراتِ كانَ يختارُ بدقّةٍ ويرسمُ بكُلِّ اختيارٍ طريقًا واضحًا ومدرسةً لمن يُريدُ سلوكَ الحياةَ الإنسانيةَ الراقية..
وبما أنّ السِرَّ دائمًا يكمُنُ في الاختيارِ؛ فقد كانَ (صلواتُ الله عليه) عندما يختارُ زوجةً يختارُ سيدةَ نساءِ العالمين (سلام الله عليها)، ثم أمَّ البنين (عليها سلام الله) لإنجابِ أبناءٍ شجعانٍ رصدهم لمؤازرةِ سيد الشهداء (عليه السلام) في واقعة الطف.
ولأنَّ اللهَ (تبارك وتعالى) أعلمُ العالمين فقد علم بأنَّ هذه النفسَ العظيمةَ ستُنذرُ حياتَها لخدمةِ القضيةِ الإلهية (الإسلام)، فأكرمه لذلك بأنِ اختارَ كيفيةَ بدايةِ حياته الشريفة (عليه السلام)؛ حين شقَّ لأُمِّه جدارَ الكعبةِ لتضعه في أطهرِ مكانٍ على وجهِ الأرض، وكذلك رسم له الخاتمةَ التي تليقُ بمقامه عنده (سبحانه) فاختارَ له المكانَ الشريفَ والشهرَ الشريفَ والوقتَ المباركَ عند تأديته أعظم عبادةٍ (الصلاة)..
ومن هنا كان قوله: "فُزتُ وربّ الكعبة" دليلًا على أهميةِ الاختيارِ في حياة الإنسان؛ إذ فاز (عليه السلام) الفوزَ الأبدي، عندما قرَّرَ أنْ يكتبَ قصة حياته بشكلٍ مُميّزٍ وباختياراتٍ متقنةٍ قادته إلى الفوز بحُبِّ اللهِ (تعالى) وطاعته ورضوانه..
وهذه المقولةُ تدقُّ ناقوسَ الخطرِ في أسماعنا؛ لنصحو مِن غفلتنا الطويلة، وكأنّها تقولُ لكُلِّ إنسان: أنتَ المسؤولُ عن فوزِك أو خسارتك، أنتَ من يرسُمُ شخصيتَك، وأنتَ المسؤولُ عن اختياراتك، وأنتَ من يكتُبُ قصتك، فإما إنْ تختارَ أنْ تكونَ الضحيةَ فيها وتعيشَ دورَ الضعيف الذي لا حولَ له ولا قوة فيرمي باللومِ على الآخرين وعلى القضاء والقدرِ والظروفِ وغيرها من الأعذارِ الواهيةِ، ثم تجلسُ نادبًا حظّك وتحسدُ الآخرين على تقدُّمِهم، أو تختار أنْ تكونَ الشخصيةَ الثانويةَ التي يكون لها الدورُ البسيط الذي لا يرتقي إلى مستوى يؤهلها إلى إنجازِ ما خُلقت لأجله، أو تختارَ أنْ تكونَ البطلَ الذي يستخرجُ القُدراتِ المودعةَ فيه والقوى الكامنةَ في باطنه؛ فقد خلقك اللهُ (تعالى) بأحسنِ تقويم..
وبهذا تكونُ الإجابةَ عن السؤالِ في أولِ كلامنا وخلاصته:
لقد خلقَ اللهُ (تبارك وتعالى) الإنسانَ على أكملِ وجهٍ؛ وترك له اختيار مصيره ومستقبله، إذ قال (عزّ من قائل): ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(1)، فالإنسانُ وعلى الرغمِ من بعضِ المؤثرات الوراثية والبيئية، يعدُّ مسؤولًا أمامَ اللهِ (تعالى) في اختياره الخيرَ أو الشرَّ؛ فإما أن يرفعَ من نفسه ويُزكّيها بالتقوى والأعمال الصالحة ويفوز بالفلاح، أو يحطَّ بها ويدسَّها بالفجورِ في حضيضِ الرذائل والمعاصي فيحصدَ الخيبات، وهكذا تنطبقُ هذه القاعدةُ على جميعِ الخيارات في الحياة.
ولكي تكونَ اختياراتنا صائبةً لا بُدَّ أنْ تكون وفق مقاييس صحيحة، ولنا في سيَرِ أهل البيت (عليهم السلام) خيرُ معينٍ لاستنباطِها.
إلا أنَّ ما يؤسفُ له أنْ تبتنيَ خياراتُ البعض أحيانًا على مقاييس مغلوطة، فيجعلون من الشهرةِ أو الغنى –وإنْ كانتْ بما هو محرّمٌ أو مستهجنٌ عرفًا- مقياسًا للنجاح، وهو بلا شكٍّ ليس المقياسَ الصائب.
فإذا وفِّقنا لاختيار الخيارات الناجعة؛ بأنْ نسألَ أنفسَنا: هل هذا الخيارُ سيُقرِّبُني إلى الفوزِ أم يُبعِدُني عنه، ونختار الخيارَ الأسلم ستكونُ حياتُنا يقينًا أقربَ للاستقامة وأبعدَ ما تكونُ عن الوقوع في الشبهات أو الانزلاق في الشهوات؛ لأنَّ الأمور حينئذٍ ستكونُ أمامنا واضحةً فلا يشتبهُ علينا الحقُّ بالباطل، أو يعسرُ علينا التمييزُ بينَ أهلِ الحق وأهلِ الباطل في زمنٍ تتسارعُ فيه الفتنُ لابتلاعِ صاحب الاعتقادِ الضعيف والإيمانِ المهزوز..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(١)الشمس (7-10)
بقلم : مروة قاسم